خلال زيارتي الى المعرض، لفت انتباهي، نشاط ثقافي جديد، ففي بعض الصالات، نُصبت لوحة بيضاء تحت عنوان (الحائط الحر)، احتوت عمودين، ألف؛ لمؤيدي الحجاب وباء للمخالفين، والجميع كان حرا في كتابة ما يشاء، ظننت في الوهلة الاولى ان الموضوع خاص للنساء، فسألت السيدة الواقفة جنب اللوحة، وكأنها المسؤولة عنها، هل هذه اللوحة خاصة للنساء، وهل يمكنني ان أدلي برأيي، فأجابت بالإيجاب، وقلت لها: انا عربي اللسان، فسأكتب بالعربية. فأيدت.. وناولتني قلما (من نوع الماجيك المخصص للكتابة على الالواح البيضاء)، فكتبت: (بسم الله الرحمن الرحيم: الحجاب امر الله وهو زينة للمرأة وحفاظ على جوهرتها التي لا تقدر بثمن). وترجمتها لها شفاهيا. فطلبت إلي ان اكتب الترجمة بالفارسية تحتها، ليفهمها الجميع، ففعلت.
ثم في زاوية اخرى من الصالة، رأيت تجمعا لعدد من الشباب والشابات حول لوحة مماثلة، وكان شاب طويل القامة جميل المحيا، يتحدث بعصبية ويتجادل مع السيدة المشرفة على اللوحة.. فهمت انه من المعارضين لفرض الحجاب، مع انه يعترف ان الحجاب في نفسه امر ذو قيمة، لكنه كان يدعي ان النظام فرض الحجاب بالقوة.. وفهمت من فحوى كلامه انه يعارض النظام من الاساس، ولم اعلم اي نوع من الانظمة يرغب فيها.. فدخلت الحلقة، وألقيت التحية، وقلت له: ان النظام لم يفرض على احد أي نوع من الزي، ولم يفرض أي رأي، والدليل على ذلك، هو وجود هذه اللوحة، وتناولت قلما من السيدة المشرفة، وناولته، وقلت له بدلا من الكلام والجدال، اكتب رأيك في القسم (باء). فهدأ الجدال، وكتب رأيه.
وفي ذات الوقت طلبت قلما من المشرفة، لأكتب رأيي في القسم (ألف)، فكتبت ما معناه: (ان الحرية امر محبذ وجيد، لكن الحرية تنتهي حدودها عند حقوق الآخرين، ومن ذلك الحجاب، فهو حق للمجتمع).
وأعجبني رأي أحدهم، حيث كتب ما معناه: (نحن مثلنا مثل ركاب سفينة تمخر عباب المحيط، وكلنا محكومون بالتعاون والعيش السلمي مع بعض، فلا يحق لأي من الركاب ان يخرق السفينة، بدعوى أنه حر في أعماله وتصرفاته، لأنه بذلك سيغرق الجميع).
وفي حلقة اخرى، كان الجدال اكثر احتداما، وكانت التجمع اكبر، فكان بعض الرجال يتكلمون بصوت مرتفع، في وقت واحد، وكان هناك شخص يحمل المكرفون ويسجل الصوت، فدخلت الحلقة لاستمع ولأفهم ما سبب كل ذلك، فكان احدهم، وهو الاعلى صوتا، رغم انه لو خفض صوته لسمعه الجميع جيدا، ولكنه يبدو كان منفعلا، كان يتحدث عن امور لا علاقة لها بالحجاب، وجلها حول الغلاء والوضع الاقتصادي، دخلت خضم النقاش وهذه المرة اضطررت لرفع صوتي، لأن اللغط كان كثيرا، وقد أسعفني صوتي الجهوري كثيرا، وهنا دخلت امرأة مع زوجها، ليتجادلا في آن واحد مع المشرفة، التي كانت تدافع بقوة، وتطرح احصاءات مثلا عن العدد الكبير لعمليات الاجهاض في الغرب، ومقارنتها مع ايران، فكانت المرأة (وهي طبعا كان حجابها ناقصا)، وزوجها ايضا ينكران هذه الاحصاءات، ويزعمان انها ملفقة، وآخرها قالت المرأة: اننا لا يمكن ان نفهم كلام بعض (في حالة من التعالي وكأنها تتهم السيدة المحجبة بأن مستواها الثقافي دونها).. وهنا دخلت النقاش، وقلت لها ومخاطبا الجميع: نعم.. أؤيدك في هذا، إننا لا يمكن ان نفهم كلا بعض، وتعلمين لم ذلك؟ لأن معاييرنا تختلف، نحن معاييرنا إلهية، ومعاييركم سوى ذلك.
وهنا تعرضتُ لهجوم مرتد، من قبل بعض المجادلين، الذين كانوا يخلطون الامور مع بعضها، فتدخل شخص بدى أنه مثقف، فتحدث بصوت عال: انا كاتب وشاعر، ولا فخر، واعلموا ان اساس كل دولة يتمثل في أربعة أمور؛ هي التربية والتعليم والثقافة والتاريخ، وعندما تتعرض بلادنا لهجمات اجنبية طيلة اكثر من اربعة عقود، لتنال من ثقافتنا وتاريخنا وحضارتنا، فعلينا ان نولي اهتماما أكبر بثقافتنا وبتاريخنا.. وأورد مثالا على ذلك، ان الشاعر الحكيم فردوسي، ألف الشاهنامه في 30 عاما، وقال انه بذل من المعاناة ما بذل في 30 عاما فأحيى بذلك الأمة واللغة الفارسية، وأنه بنى من بديع الأدب قصورا وبروجا.. لا تنال منها الرياح ولا المطر.. مثلما نالت من قصور الملوك السابقين فجعلتها اثرا بعد عين.. ثم قال هذا الشخص: ان الشاهنامة تحدثت ايضا عن الحجاب.. ثم بدأ بالتهجم على النظام الإسلامي، واتهمه بانه ظلم التاريخ والادب الفارسي.. وظلم الشاهنامة..
فقلت في نفسي: (ايها المتثيقف.. قد بدأت خطابك جيدا.. وبدوت مثقفا.. لكن بتعميمك ودعواك الاخيرة.. أثبتّ جهلك.. فالنظام الاسلامي، قدم خدمات جليلة وأولى اهتماما كبيرا بإحياء الثقافة الاصيلة، خاصة ما يرتبط منها بالمشترك الانساني مع دين الاسلام الحنيف.. والدليل على ذلك هو هذا المعرض بذاته، فكم من دار نشر اهتمت بالادب والثقافة الفارسية.. وجددت طبع الشاهنامة ودواوين الشعر لمختلف الشعراء القدماء، الذين أثروا الأدب الفارسي بأفكارهم وقيمهم الانسانية).
فقلت له مخاطبا ولإسماع الآخرين: بدلا من هذه الخطبة الرنانة.. اكتب لنا على اللوح.. ما قالته الشاهنامة عن الحجاب.. لنستفيد.. فطلب مهلة.. وطالت.. لأنه لم يكن يحضره في ذهنه ما طلبت منه.. واخرج جواله ليبحث عن الموضوع المنشود.. ولما طال المقام.. وكثر اللغط.. انسحبت بعد ان شعرت بالألم في قدمي بسبب الوقوف أكثر مما يسمح لي وضعي الصحي.. ونسيت امر بناتي اللاتي كن يستمعن للنقاش، فرأيتهن يتحدثن مع سيدة اصطحبت طفليها الى المعرض، وكان مما قالت هذه السيدة: (انا محجبة وفخورة به، وأنا مقتنعة به، ولم يجبرني أحد على ذلك).
حييتها وحييت التزامها بالحجاب، واستأذنت منها، لنكمل انا وبناتي جولتنا الثقافية في رحاب معرض طهران الدولي الرابع والثلاثين للكتاب. وبحق هو يمثل اكبر حدث ثقافي في الجمهورية الاسلامية الايرانية.
محمد النواب